(1)
أول لحظات الإنفصال ما كانت تعني لهما سوى آخر إنقطاع للرؤية ..آخر بسمة تخلق على شفاههم بصدق .. أو آخر دمعة تمحو قسوة من لا يدركون ..بحسم .. ينزعون جسديهما المستسلمين من عربة الإسعاف ... بحسم يضعونهما على الأسرة ذات العجلات الحديدية .. بحسم تتواطؤ الأسرة مع قادتها وتنساب في خشونة على بلاط الممرات المشبعة برائحة أرواح من ماتوا هنا ...
يشير الطبيب المتمرس على إبداء العجلة إلى قواد التوابيت المكشوفة أن يدخلوهما في غرفتي الرعاية المتجاورتين ..ليشرع في ممارسة طقوس الإنقاذ .. يستعيد في سرعة ما تراكم في عقله من صفحات المراجع الصفراء عن الغيبوبة .. نقص أكسجين .. نزيف .. ورم .. صرع .. تسمم.. يجري فحوصاته الأولية متحسسا ما قد يكون سببا للعطب الذي أوقف الآلة الحية ..
" ايها الطبيب .. الفتاة تعاني من انهيار هناك .. في الغرفة المجاورة " يصرخ بها الممرض ..فيسارع الطبيب للغرفة الأخرى .. هبوط حاد وكأن القلب قد قرر الكف عن الدعم .. وإشارات مخ كهربية مضطربة كانت كافية ليتملك عجز نقص الخبرة كل حواسه .. " نفس الأعراض على الشاب .. " ..يقولها الممرض أثناء إندفاعه إلى الغرفة فيقتنصها الطبيب لينتزع نفسه من العجز ..عله لا يجده قد سبقه إلى الغرفة الأخرى .
- " حسنا إني قادم" .
في غرفة الشاب تتسارع عجلة الموت في الإندفاع نحوه ..العرق يغمر جبهة الطبيب .وصوت الممرض يخترق أذنيه " الفتاة ..."
زفرة حارة من صدره تنطلق مع ساقيه لغرفة الفتاة .. يكاد يرى جراب الحياة يغلق . فيحاول ان يمد يده ليجعله مفتوحًا قليلا .
*الشا...
- تبا .
يندفع نحو غرفة الشاب وقبل ان يمد يده " أحضر الفتاة إلى جوراه".
بآلية من لا يرى سوى نوبات عبث قلبية .. إشارات مخ كهربية مرسومة على حائل صغير .. يعود بكله إلى الفتى ولا يشعر بالفتاة التي يدلف حاملها الحديدي ليضعها بالجوار ...
"وكأن العصافير ذهبت .. وتركت روضة عامرة في سكون يمتد بطول الأبد "
يتذكر جملة أستاذه المتفلسف التي كان يصف بها الموت دائما .. ليدرك بعد لحظات أن العصافير توقفت عن التغريد .... ولكنها هذه المرة ما زالت هنا... يجمد للحظات أمام الفتى والفتاة مستقري الأنفاس الراقدين كملائكة .. ينظر إلى مساعدته في وجوم ويغادر حالتيه مستقرتين .. عادة في مثل هذا الموقف يشعر برضا منقذ كوني عن نفسه .. ولكنه هذه المرة موقن أن لا فضل له في الأمر .
(2)
في الشهور الثلاثة الأولى كان احساسهما بالإمتداد في كائنين منهما هو المسيطر .. توأم .. يتعالى شعورهما بالخصوصية مع تلك الكلمة ، يجسدها إحساس الإنجاب الأول .. ذكر وأنثى .. تتملك الأم النشوة لهذا ويشعر الأب برضا عميق عن الحياة .
في السنوات الثلاثة الأولى يمارسان طقوس الرعاية باستمتاع طفولي .. غرفة صغيرة زاهية طلاء الجدران .. نفس الملابس .. نفس المداعبات لكلاهما يقتسمونها بالتساوي .. مع الوقت تعلمت الأم أن صغيريها يأبى أحدهما الرضاعة دون الآخر .. يرضعان سويا .. في ذات الوقت .. بررتها الأم لنفسها بالكلمة السحرية .. توأم .
معا يخطوان خطواتهما الأولى .. نفس الأشياء تشد إنتباههما ، يضحكان لنفس المداعبات ، يمرضان معا !! .. لا بأس .. تستعين الأم بكل مخزون الحكايات لديها عن التواءم .
فراش واحد يحتويهما معا حتى تمام الست ، عندها قررت الأم كما تعلمت أن تفصل بينهما في الفراش ، تمهيدا لسنوات قليلة أخرى يستقل كل منهما بغرفته الخاصة الصغيرة بعدها ، إعترضا في البداية .. بهدوء يتصاعد إلى عنف حذر ، لتقابل الأم عنادهما بعناد أجف يحاول رسم السيطرة .. فراشان صغيران يفرضان الأمر الواقع كما تعلمت أيضا .. يمتنعان عن الطعام في صمت لتدرك الأم أن عليها أن تتعجب بعض الشيء من إرتباط صغيريها .
(3)
أحيانا .. أتخيل أنه ذات يوم لم أكن قعيدا .. لم يكن المقعد المتحرك وكلبي وذاك الغامض الذي يأتيني بالطعام هم رفاقي الأبديين .. أتخيل حياة تعلو فيها أصوات صاخبة لها نبرة تختلف عن نبرة صوتي التي مللتها .. أتخيل كائنات مثلي لها القدرة على المشي كما يفعل كلبي ، ويتملكني بعض الوقت يقين أني رأيت شيئا كهذا ذات يوم .. أحاول أن أتخيلني في عمر غير هذا .. على حال غير حالي .. ودوما يعود لي إدراكي خائبا ليهمس في صوت قانط .. دوما .. كنت هنا .. دوما كان البيت فسيحا والريح قاسية البرودة وصفير الهواء بين جزوع الأشجار التي تحجب عنك المدى خارج نافذة حجرتك .. دوما كانوا .
لا يمر علي يوم دون حلم طويل .. أحيانا أتذكره .. وأحيانا ينطمس قبل أن يجف على جدران الذاكرة الخاوية .. بدأت تقويمي بأول أحلامي التي اتذكرها .. رأيتني فيه طفلا صغيرا .. أحيا وسط كائنات لها ذات ملامحي .. لم اشعر أني أحبهم كثيرا .. إلا تلك الفتاة التي كانت رفيقتي دوما هناك .. لها عينان تشبهان كثيرا عيني كلبي .. ربما أحببتها كثيرا لهذا ..أتذكر أن تلك الكائنات التي كانت تشبهنا حاولت ذات يوم أن تفرق بيننا ، تملكني الرعب حينها ، عاودتني ذكريات عزلتي الضبابية .. إرتجفت للتذكر كل أطراف جسدي ، وهمست لها بضعف : إني خائف .
نطقت بها وجسدي متكور بركن الغرفة فاقتربت مني وجثت على ركبتيها لتضع كفيها على قدمي .. لتزيل بأصابع رقيقة دمعة إلتصقت بجفوني وتحتضنني بصوتها : دموعك ستجعلهم يعيدونك هناك .. فقط إمتنع عن الطعام .. وسأتولى بقية الأمر .
حين يهبط الظلام ويصبح البيت مملكة للظلال .. أذهب بمقعدي المتحرك إلى ركن الغرفة .. فيلحق بي رفيقي ليعلوا بقدميه الأماميتين على قدمي .. فأتذكر رفيقة حلمي وأنظر في عينيه شبيهتي عينيها لتذهب ذكريات الظلال إلى أقصى أطراف إدراكي .
إقترب موعد الظلال ولم يأت ذاك الغامض ليضع الطعام على باب غرفتي .......
أتت الظلال وتبددت بالنور الآتي من خلف أشجار المدى القابعة أمام نافذتي ولم يأت الغامض بعد ..........
الإتيان الثالث للنور ولم يأت بعد ......
حبيسين أنا ورفيقي في البيت ، يستعين كلانا بدفء جسد الآخر على برد الجوع ، أستعين بنظرة عينيه للذهاب إلى هناك ، لأشعر بأن له ذات رغبتي .
حين أتى النور الرابع ليبدد الإتيان الخامس للظلال ، أفقت على حلم جديد .. رأيتني وهي.. وقد مضت علينا أعوام منذ الحلم الأول .. في تلك المرة كانت الدموع تملأ عينيها هي .. إنهارت صلابتها أمام مفردات النبذ التي يلاحقونا هم بها .. في المنزل.. وفي مكان ذو نصف جدار أسود ومقاعد كثيرة.. يمتلأ الفراغ بهم .. لهم نفس أعمارنا .. نبتعد عن ضجيجهم فيلاحقونا به ، حريصين على تأكيد أنهم هم من يلفظنا لا نحن من يتجنبهم .. أقترب منها لأزيل دموعها وأحاول أن أجفف حزنها بالكلمات ، فتهرب مني الألفاظ ككل مرة .. ألتصق بجسدي بكلها فيهدأ الإرتجاف الذي حل بجسدها منذ أغلقنا علينا جدراننا الأربعة .. تفرد كفها على وجهي فأشعر بدفء يزيل بعض الوحشة .. أتخلص من ملابسي قطعة بعد قطعة لتفعل مثلي ونعود إلى الإلتصاق متوحدين .
في منتصف النور الرابع أصبحت أفكاري هائمة .. غير قادر على ربط إحداها بالأخرى .. تذكرت رفيقي .. لحظات ويلتقطه بصري قابعا في ركن الغرفة .. لأول مرة أشعر بابتعاده .. أفتقد الألفة في نظرة عينيه .. لحظات وأدرك أنه بعد أن قاربنا على نسيان أن يأتي الغامض ، وتجسد الجوع كرفيق ثالث لنا ، أصبح كلانا طعام محتمل للآخر .. أقترب منه فيزمجر في ضعف ليستكين بعد لحظات إلى تربيتة كفي على رأسه .. بكفي الأخرى ألتقط تمثالا رخاميا صغيرا ...ملمسه البارد الصلب يخترق تبلدي ..لحظات وأعيده إلى موضعه لأغلق عيني متمتما ببضع كلمات منغمة أتذكرها من بعض أحلامي هناك مع فتاتي بينما يفيق كلبي من إستكانته لتتعالي زمجرته المتهالكة بفعل الجوع .
(4)
يقتربان من امتداد جسديهما المتمددان بلا حراك على أسرتهما .. غارقان في غيبوبة يتضاءل إلى جوارها وعي أبيهما وأمهما المعتصرين بآلام الفقد .. يتقاذفهما حنين ونفور يتنازع نفسيهما .. تقترب من ولدها لتمسح على شعره هابطة بكفها على وجهه نابت اللحية الناطقة بفتى يستقبل الرجولة لتهبط على عنقه نافرة العضلات برغم الغيبوبة فتتذكر أيام كانت تلك العنق بضة ناعمة تشبعها تقبيلا منغمس بضحكات صغيرها الفرحة .. يميل على طفلته الفتاة التي يأبى خياله تشبيهها بالأميرة النائمة في غيبوبتها.. يود أن يفعل كما كان .. أن يحتضن جسدها الضئيل ويداعب مقدمة أنفها لتفتح عينيها باسمة كما كانت .. تصده أحافير الأنوثة النافرة بتضاريس جسدها واضعة بعض الإشارت الحمراء .. بعض العلامات التحذيرية .. لتقتنص منه كامل الحرية في التعامل مع جسدها التي كان يمارسها قبل أعوام مضت .
حين زفوا إليها بشرى جنينتها الفتاة .. شعرت بالفرحة تصب في أعماقها وسط آلام المخاض ومحاولات جنينها الآخر للخروج .. وحين خرج .. زفوا إليها بشرى جنينها الولد .. فشعرت تلك المرة بالنصر .. بأنوثتها تكمل ما نقص منها من ذكورة في جنينها .. حين زفوا إليه بشرى الفتاة .. شعر بحنانه المختنق بذكورته يتمرد فرحا بفتاة سيمارس معها ما حظر عليه منذ تصلب جفاف الرجولة على ملامحه وأفعاله .. ومع بشرى الولد شعر بأمله يمتد عمرا إلى جوار عمره .. وببعض ما إندثر من أحلام يعود ليطالب بحق في الحياة .
تنتزعهما أصوات أجهزة مراقبة النبض وإشارات المخ المعلقة بجسد الفتى المتوترة للحظات تستقر بعدها على خط مستقيم واصل .. يبدأ من الحياة وينتهي إلى الموت .. مشدوهان يقفان أمام جثة الفتى بينما تعود خلجات الوعي تصب على ملامح الفتاة .
(5)
من على محبسها ذو العجلات تذهب عيناها إلى هناك .. حيث أشجار الغابة عملاقة تتخفى وراء إمتداد الضباب الرمادي المسيطر ، لتشعر به جاثما على روحها فتهرب إلى السقف الذي تراه من جلستها اللاإختيارية بعيدا كبعد ملامح أحلام ماضيه أو أشد .. تفيق على دخلته .. عملاقا ..مهيبا .. خاوي اليدين
" لا طعام اليوم أيضا ؟"
يوميء برأسه بالإيجاب .
" متى سينقطع حضورك ؟.. أم ستبقى حتى ترى نهايتنا ؟.. "
يغادر ... ليهرول كلبها على أطرافه الأربعة ..يعلو بأطرافه الأمامية متكئا على قدميها القعيدتين .. فتمسح على جسده في رفق ... وتتمتم " هناك .. كنت ستنهار أنت .. وكنت أنا من سيتلقى العبء وحده ... أما الآن .. " .. تبتلع ريقها الجاف لتكمل " فلا أعدك بشيء ".
أعلم ما أتى بنا إلى هنا .. ترى أتعلم أنت أيضا؟.. أم أن المسخ طال إدراكك كما طال جسدك ؟.. كنت تحدثني من وسط أنات ضعفك أنك تكرههم وكنت أنا من وسط ركام صلابتي أزعم لك أنهم لا يستحقون الكراهية .. هم فقط ينقصهم بعض إدراك ربما لن يتحقق.. ربما لأنهم لا يمتلكونه من الأساس .. أحيا الآن وسط يقيني الزائف .. لتتشكل كراهيتي لهم على مهل ..
تقبض بيديها على طرفيه الأماميين ترفعهما لتجعل عينيه في مواجهة عينيها وتكمل : أتعلم .. أحيانا أتخيل لنا إمتدادا ثالثا غير إمتدادنا هذا وامتدادنا الملقى على الأسرة هناك .. تكون فيه أنت مكاني .. أكون فيه أنا مكانك..
ترى هل أكسبتك طبيعتك التي أصبحت عليها بعض صلابة تواجه بها ما أوقن الآن أننا ذاهبون إليه خلال يومين على الأكثر.. بعد ثلاثة من الجوع والعطش ؟..
أعلم أنني سأنتظر اليومين حتى أتيقن .. ولكني لن أنتظر .. سأكون المبادرة بالفعل هنا كما كنا هناك .